تركز الورقة على الدور الذي قامت به الدول الغربية المانحة بعد تأسيس السلطة الفلسطينية عام 1994 في إضعاف مناعة الثقافة الفلسطينية، وذلك بإغراقها بالتمويل، ومن ثم سحبه شيئاً فشيئاً، وتقييده بشروط، في محاولة لإخضاع الأجيال الفلسطينية لثقافة السلام ونهج أوسلو، بعيداً عن ثقافة المقاومة والصمود المواكبة لواقع الفلسطينيين في الأرض المحتلة. وعندما شنت إسرائيل حربها الإبادية على قطاع غزة كان دور المؤسسة الثقافية الفلسطينية ضعيفاً، وكذلك بنية صمودها وبرامجها. وما زال الغموض يكتنف دور الثقافة الفلسطينية في الفترة المقبلة، في ظل تكبدها خسائر فادحة في غزة باستشهاد العشرات من منتجي الحقلين الفني والأدبي، وبتدمير المراكز الثقافية والفنية والمراسم والمكتبات من جهة، وحالة الذهول والشلل التي أصابت القطاع الثقافي في الضفة الغربية والداخل المحتل والتخبط وعدم المقدرة على تحويل الواقع إلى منبر للتحدي وللتخلص من الحصار الثقافي الذي فرضته أوسلو من جهة أُخرى.
أوسلو ووهم الثقافة
فتحت عودة منظمة التحرير الفلسطينية إلى فلسطين المحتلة في إثر اتفاقية أوسلو عام 1993 وإنشاء السلطة الفلسطينية عام 1994، فصلاً جديداً من فصول النضال الفلسطيني. فقد انتقل الدور الذي كانت تؤديه المؤسسات المجتمعية والشعبية الصغيرة والنقابات والأفراد في الأرض المحتلة، إلى المؤسسات الرسمية وغير الرسمية التي مدَّتها السلطة الفلسطينية والمانحون بالتمويل. اتبعت السلطة الفلسطينية سياسة نيوليبرالية عزَّزت الفردية في مقابل الفعل الجمعي، وأدى ذلك إلى حل النقابات والاتحادات أو ضعفها. كما خبا الدور الذي لعبته مدينة القدس وبقية المدن في فلسطين المحتلة 1948 ومؤسساتها في الثقافة الفلسطينية، إذ انتقل مركز الثقل الثقافي إلى رام الله، المدينة التي تلقَّت حصة الأسد من التمويل الأجنبي.
وساهمت أوسلو وتدخل التمويل الأجنبي في كبح الحالة الثقافية السائدة وتقويض تطورها بشكلها العضوي، فأصيبت بالبتر مرة أُخرى، بعد البتر الأول في إثر النكبة. ولم تستطع الثقافة التي دجنها التمويل الأجنبي الاضطلاع بدورها النقدي والنهوض في وجه الاحتلال من موقعها، وإنما حاولت مجرد البقاء (وليس الصمود)، وذلك بإدامة عجلة نشاطاتها مستمرة ضمن ما يُرسم لها من حدود وسياسات، وانشغلت بمواضيع غير مرتبطة بواقع الاحتلال والتهديد الوجودي، وصرف الميزانيات بما يرضي المموِّل. وبذا، فقد ابتعد الحقل الثقافي عن ثقافة الصمود والمقاومة على الرغم من الإنتاج الغزير ظاهراً. وعن ذلك يقول عبد الرحيم الشيخ: "لقد نجحت منظمة التحرير الفلسطينية في السقوط الحر في دولاب ما بعد الاستعمار حين تحوَّلت إلى ʾسلطةʿ، طاويةً صفحة ʾالتحريرʿ، من دون أن تفتح صفحةَ ʾالاستقلالʿ. وبين الصفحتين، غير الموقَّعتيْن بخاتمة لائقة، بنت السلطة وهمها الدولتي في رام الله السعيدة..." ويضيف: "تحوَّل المجتمع المدني الفلسطيني، في أغلبه، من جزء تكوينيٍ في الحركة الوطنية المقاومة للاستعمار إلى هيكل مقلَّم الأظافر، متعايش مع الواقع الاستعماري، ويسعى، في أحسن الأحوال، إلى ʾتفكيكهʿ(de-colonizing) عبر القانون أو المنهج أو المعمار..."[1]
وفي الأثناء، انطلقت حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل (BDS) من فلسطين إلى العالم، وأُطلقت حملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية، وانضم إليها فنانون وأكاديميون من جميع أنحاء العالم، وتمكّنت من الضغط لإلغاء عروض وفعاليات ثقافية في دولة الاحتلال، ووقفت كذلك ضد التطبيع الثقافي الذي حاولت إسرائيل من خلاله تلميع صورتها في العالم بعد أوسلو بمساعدة غربية.
فبعد عام 2001، بدأ الممولون يحذون حذو الولايات المتحدة في وضع شروط على المساعدات، وفرض رقابة على مصطلحات تستخدمها المؤسسات الثقافية في منشوراتها، منها كلمة "النكبة" و"الاستعمار" و"الفصل العنصري" و"حق العودة"، وحجب التمويل عن مشاريع متصلة بالترويج لحقوق اللاجئين الفلسطينيين في العودة، والمطالبة بتضييق النطاق الجغرافي الذي تغطيه المؤسسات واقتصاره على الأرض المحتلة عام 1967، وتوجيه التمويل نحو المشاريع الرامية إلى "حل الصراع" و"بناء السلام".[2] وحذا الاتحاد الأوروبي حذو الولايات المتحدة كذلك من حيث فرض التمويل المشروط على المؤسسات الفلسطينية، ما أدى إلى رفض معظم المؤسسات الثقافية التمويل الأوروبي في عام 2020، في حين خضعت أُخرى مضطرة إلى الشروط.
وفي عام 2019، تراجعت المواقف الألمانية وأصبحت أكثر تطرفاً ضد الفلسطينيين، واتُخذ قرار بتجريم التعامل مع حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات على إسرائيل (BDS) في ألمانيا، وتسبب ذلك بتوجيه تهمة اللاسامية إلى العاملين في حقل الثقافة ممن ينادون بالحقوق الفلسطينية، ما تسبب بإسكات كثير من الأصوات.
انسحاب التمويل الأجنبي في العقدين الماضيين تدريجياً من الحقل الثقافي، أدى إلى تمركز ميزانياته في عدد قليل من المؤسسات الكبيرة الفاعلة، ما تسبب بضمور كثير من المؤسسات الثقافية الصغيرة والمبادرات المجتمعية الشعبية.[3] وفي هذا السياق، يقول طارق دعنا: "تواصل الشريحة الأكبر والأكثر تأثيراً في المجتمع المدني اعتمادَها على المساعدات الدولية المشروطة سياسياً وأيديولوجياً إلى حد كبير والتي تفرض قيوداً عديدة على عمل الجهات الفاعلة في المجتمع المدني"، وأضاف أن هيمنة هذه الشريحة "أدت إلى نزع الصبغة السياسية عن المكونات الاجتماعية، وبروز نخبة جديدة منسلخة عن محيطها، وتبديد الملايين على مشاريع عديمة الجدوى"، فبدل أن يكون المجتمع الفلسطيني المدني "ساحة للمقاومة والحشد ضد التشرذم، إلاّ إنه أصبح جزءاً من التشرذم ذاته."[4]
حرب تشرين الأول/ أكتوبر 2023
جاءت الحرب الإبادية على قطاع غزة في 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 في أعقاب عامين سقط فيهما عدد كبير من الشهداء في مخيمات جنين وطولكرم ونابلس بشكل يومي تقريباً، وارتفعت أعداد الأسرى في سجون الاحتلال وازداد التضييق عليهم. أمّا المؤسسات الفنية والثقافية، فقد كانت منشغلة في إقامة معارض أرشيفية وتنظيم قراءات شعرية، واستلام الجوائز وتسليمها، والتغنِّي بالتراث والإرث الثقافي الفلكلوري، وتبديد الأموال في إصدار مطبوعات مكلفة مصيرها سلّات القمامة، واعتمد العديد من المؤسسات اللغة الإنكليزية، لغة الممول، لمخاطبة جمهورها. أمّا قطاع غزة، فلم يكن له حصة في برامج هذه المؤسسات إلاّ فيما ندر، إذ أُعطي هامشاً بسيطاً، أو جرى نسيانه في معظم نشاطاتها.
لم تكف الشروط التي فرضها الاتحاد الأوروبي قبل الحرب على غزة على المؤسسات الفلسطينية، فبعد يومين فقط من إعلان الحرب، صرحت رئيسة مفوضية الاتحاد الأوروبي، أكبر الداعمين للفلسطينيين، بضرورة إعادة النظر في المساعدات المالية للفلسطينيين في ضوء أحداث السابع من أكتوبر، معلنة إدراج مزيد من الشروط التعاقدية ذات الصلة بـ "مكافحة التحريض" بما في ذلك مع وكالة الأونروا، في حال اتُخذ قرار بالاستمرار في الشراكة مع مؤسسات فلسطينية.[5]
ردت مجموعة من المؤسسات غير الحكومية الفلسطينية، بينها مؤسسات ثقافية، قائلة إن "منظومة التمويل الدولية هي أداة في صندوق أدوات الهيمنة الاستعمارية في منطقتنا وإن منظومة المساعدات موظَّفة كسلاح من أجل تركيع الفلسطيني... وإن هذه السياسة جزء لا يتجزأ من عقيدة أوسلو، ومنظومات التحكّم التي فرضت علينا للحفاظ على أمن الاحتلال." وأشارت إلى أن واجب المؤسسات اليوم هو "بناء منظومة التكافل المجتمعي وشبكات العمل الشعبي القاعدي، والإيمان بقدرات وممكنات الأهالي والشباب، والتنبه لهيمنة التمويل الأجنبي والتعامل مع المؤسسات الدولية على أساس الندية التامة."[6] وبينما أعلنت هذه المؤسسات نيتها الانفكاك عن المعونات الأجنبية، إلاّ إنه، وعلى أرض الواقع بادرت قلة قليلة منها إلى اتخاذ خطوات عملية.
مع تتابع الأشهر الأولى للحرب، أصدرت وزارة الثقافة الفلسطينية ثلاثة تقارير حول الخسائر في قطاع غزة في الحقل الثقافي، فقد طال القصف الإسرائيلي الوحشي حياة 41 فناناً وكاتباً وموسيقياً وشاعراً وناشطاً، من الرجال والنساء، في حقل الثقافة،[7] منهم الفنانين: محمد سامي وهبة زقوت ونسمة أبو شعيرة وحليمة الكحلوت ومحمد قريقع، والشعراء: رفعت العرعير وسليم النفّار وهبة أبو الندى ومريم حجازي ونور الدين حجاج، والكاتب الصحافي مصطفى الصوّاف، وعبد الله العقاد، والمصور مروان ترزي، وعازف الغيتار يوسف الدَّواس، كما فقد كثيرون عائلاتهم بالكامل، وأصيب العديد بإصابات بالغة، كما دُمِّرت بيوتهم وحاراتهم ومراسمهم وإنتاجاتهم. ودُمِّرت مراكز ثقافية بالكامل، بينها مركز رشاد الشوا الثقافي الذي أُسس في غزة في عام 1985، ومؤسسات فنية، مثل غاليري شبابيك وكلية الفنون في جامعة الأقصى. بينما دمِّرت جزئياً مؤسسات، مثل غاليري التقاء الذي تلفت جميع الأعمال الفنية فيه، وكذلك دُمِّرت مؤسسة السنونو للفنون والثقافة التي تعنى بالموسيقى ومن بين ما ضمَّت مئات الآلات الموسيقية، كما دُمِّر مركز غزة للثقافة والفنون الذي كان يقيم "مهرجان السجادة الحمراء السينمائي"، ومكتبات عامة وخاصة، بينها المكتبة العامة لبلدية غزة التي تحتوي على آلاف الكتب، ومكتبة سمير منصور لبيع الكتب وفيها آلاف العناوين-وكانت قد تعرضت في عام 2021 للقصف وأعيد بناؤها، بالإضافة إلى الجامعات والأماكن الأثرية والأرشيفات. ودُمِّر بيت الفنان تيسير البطنيجي في حي الشجاعية في مدينة غزة، واستشهد عدد كبير من عائلته، وفقد العديد من أعماله التي أنجزها في فترة مبكرة، وفقد الفنان فتحي غبن ابنه وبيته ومرسمه وأعماله، وعانى جرّاء تدهور وضعه الصحي، كما فقد الفنانان محمد جحا وحازم حرب أفراداً من عائلتيهما. وقد شاهدنا الفنان باسل المقوسي عبر وسائل التواصل الاجتماعي يحاول إخفاء أعماله الفنية بلفِّها ببطانيات ووضعها تحت طاولة قبل نزوحه. أمّا الفنان ميسرة بارود، فلم يفقد بيته فقط، بل فقد مرسمه وجميع أعماله الفنية أيضاً. ولا تزال الرواية عن مصير الفنانين والأدباء والعاملين في الثقافة ناقصة في ظل تواصل التدمير وشُحِّ المعلومات.
وقد عمد بعض المؤسسات، وكنتيجة مباشرة للحرب، إلى التوثيق وإثارة النقاش حول عدد من المواضيع، مثل إصدار مؤسسة الدراسات الفلسطينية عدداً مرجعياً (رقم 137) من مجلة الدراسات الفلسطينية تحت عنوان "سلام لغزة" بمشاركة 60 كاتباً "كوثيقة تاريخية وشهادة جماعية على حدث فلسطين الكبير"، ونشطت منصتها الإلكترونية في النشر من خلال مدونة "فلسطين الميدان" باستكتاب عدد كبير من الأقلام، ومنها شهادات مباشرة من غزة، بالإضافة إلى الندوات الحوارية والفيديوهات وأوراق السياسات. كما نشطت مجلة "فسحة ثقافية" في النشر، وفي تنظيم ندوات حوارية وإنتاج حلقات "بودكاست" على الرغم من القيود التي فُرضت على الداخل الفلسطيني. وقامت جامعة بيرزيت بعقد مجموعة من الندوات الأسبوعية من باب تسليط الضوء على جوانب مختلفة من الحرب.
ومن أبرز الفعاليات التي نظمت ويتم تنظيمها في هذا الوقت، "هذا ليس معرضاً" في المتحف الفلسطيني في بيرزيت، والذي جمع تحت سقفه مجموعة كبيرة من أعمال فنانين من غزة موجودة لدى مقتنين في رام الله والقدس وغيرها من المدن الفلسطينية، بالإضافة إلى معرض "المفقودون" للفنان الغزي تيسير بركات. وقد قامت وزارة الثقافة الفلسطينية بحصر الأضرار على قطاع الثقافة في غزة في ثلاثة تقارير أصدرتها منذ بداية الحرب، بالإضافة إلى كتاب شهادات من غزة، بعنوان: "كتابة خلف الخطوط".
أمّا الداخل الفلسطيني المحتل فقد تعرض صوته للقمع منذ بدء الحرب، فلم نلحظ تظاهرات أو احتجاجات كما كان الحال في هبّة الكرامة عام 2021. ومنذ بداية الحرب، اعتقلت سلطات الاحتلال الإسرائيلي عدداً من الشخصيات والرموز الثقافية ممن تجرأوا ووقفوا علناً ضد الحرب على غزة من خلال مواقع التواصل الاجتماعي، مثل الفنانة دلال أبو آمنة والفنانة ميساء عبد الهادي وآخرين من نشطاء ومؤثرين، وذلك في محاولة لتكميم أفواه المجموع. كما تعرض الطلبة الفلسطينيون في الجامعات الإسرائيلية للتهديد والملاحقة الجسدية واللفظية، وأعلنت مؤسسات التعليم العالي الإسرائيلية أنها لن تتسامح مع أي منشورات تحرض على "الإرهاب"، وطالب وزير التعليم يوآف كيش بإجراءات تأديبية ضد الطلاب المخالفين،[8] وشُنَّت حملات منظمة ضد الأساتذة الجامعيين كما في حالة الأستاذة نادرة شلهوب-كيفوركيان. وعلى الرغم من الممارسات القمعية ضد الصحافيين، فقد استمرت مجموعة من المنابر الإعلامية الثقافية في الداخل في تغطية الحرب على غزة، كما نُظِّمت مجموعة من النشاطات مع الحرص علـى عدم ذكر قطاع غزة بشكل مباشر، بالإضافة إلى مؤتمر بمشاركة 18 باحثاً وشاعراً وكاتباً في حيفا عُقد منتصف كانون الأول/ديسمبر، بالتعاون بين مدى الكرمل وجمعية الثقافة العربية في حيفا.[9]
كشف العدوان الإسرائيلي عنصرية المؤسسات الثقافية والفنية الغربية وخضوعها بشكل كبير لرغبات السياسيين ومموليها، وفي الوقت نفسه نشطت مجموعات من الفنانين والعاملين في الحقل الثقافي في العالم بشكل غير مسبوق لمؤازرة غزة، وللضغط على المؤسسات الفنية والثقافية الغربية، ومنها مجموعة "ديكولونايز ذيس بليس" (Decolonize This Place) في الولايات المتحدة، التي نظَّمت احتجاجات في متاحف ومؤسسات فنية ظلت صامتة طوال الحرب، بما في ذلك تظاهرات في "متحف الفن الحديث MoMA" شارك فيها مئات المتظاهرين الذين طالبوا بخروج المؤسسة عن صمتها وطرد أعضاء مجلس الإدارة المتورطين في دعم حرب الإبادة في غزة. كما شاركت مجموعة "سترايك جيرماني" (Strike Germany) في إطلاق حملة في الوسط الثقافي الغربي مطالبة بالإضراب عن التعامل مع المؤسسات الألمانية الثقافية تحديداً لمواقفها المنحازة إلى إسرائيل، وبتغيير مواقفها قبل إعادة التعامل معها. كما أقيمت مجموعة من النشاطات الثقافية ذات الطبيعة التضامنية مع فلسطين في أماكن مختلفة، أبرزها معرض فني نظمه متضامنون في بلدية برشلونة في إسبانيا بمشاركة فلسطينية، ووقَّع عدد كبير من الفنانين عريضة تندد بالعدوان الإسرائيلي الهمجي على غزة، وتطالب بوقف إطلاق النار، كما وقف عدد من المشاهير من هوليوود ضد الحرب الإسرائيلية على غزة من خلال التظاهر والتضامن العلني، منهم سوزان سراندن وسنثيا نيكسون وآخرون، وهو أمر لم يكن ليتجرأ ممثلو هوليوود على اتخاذه من قبل خوفاً من اللوبي الصهيوني.[10]
من جهة أُخرى، تعرّض عدد من الفنانين الفلسطينيين للإقصاء في العالم، فألغيت مشاركة للفنانة إميلي جاسر من ورشة فنية في جامعة في برلين، وألغيت محاضرة للفنانة جمانة مناع في متحف وكسنر في أوهايو، كما ألغي معرض الفنانة سامية حلبي الاستعادي في متحف إسكنازي للفنون في جامعة إنديانا في الولايات المتحدة الأميركية بعد ثلاث سنوات من التحضير. وتم إقصاء كثير من الفنانين والعاملين في حقل الثقافة في العالم نتيجة آرائهم على وسائل التواصل الاجتماعي، بينهم الفنان الصيني العالمي آي ويوي الذي أُلغي معرض له في غاليري ليسون في لندن بعد تحضيرات طويلة وقبل وقت قصير من الافتتاح، وتعرّضت النسخة العاشرة من بينالي التصوير الفوتوغرافي للإلغاء في ألمانيا بفعل مواقف قيِّمه المؤيدة للفلسطينيين، وفُصلت القيِّمة واندا نانيبوش من الشعب الأصلاني في كندا من غاليري آرت أونتوريو لنشاطها في وسائل التواصل الاجتماعي بسبب ضغوط من متحف إسرائيل والفن- كندا، وأثار متحف ويتني للفن الأميركي حفيظة مجموعات طلابية أميركية وقّعت عريضة ضد العدوان الإسرائيلي على غزة، عندما صرَّح الملياردير الأميركي كين غريفين، أحد داعمي المتحف الكبار، أن الطلبة المؤيدين للفلسطينيين يجب أن تُدرجهم جامعاتهم على قائمة سوداء، فتوجهت مسيرة طلابية غاضبة بعدها نحو المتحف وأغرقت مدخله بالدهان الأحمر. وتم فصل محرر المجلة الفنية المعروفة "آرت فوروم"، ديفيد فيلاسكو، بعد أن نشر بياناً تضامنياً مع الفلسطينيين ووقّعه عدد كبير من الفنانين طالبوا فيه بوقف إطلاق النار في غزة. وقد نشرت المجلة في اليوم التالي رسالة دانت فيها البيان "غير المتوازن" الذي نشرته. وخلف الكواليس، ضغط مقتني الفن الثري الأميركي مارتن أيزنبيرغ على بعض الفنانين الموقِّعين الذين يقتني أعمالهم، الأمر الذي أدّى إلى سحبهم تواقيعهم من البيان.[11]
الفلسطيني في حقل الثقافة
تحدث إدوارد سعيد عن "وجوب بقاء المثقف أميناً لمعايير الحق الخاصة بالبؤس الإنساني والاضطهاد، رغم انتسابه الحزبي، وخلفيته القومية، وولاءاته الفطرية"، وأن "لا شيء يشوه الأداء العلني للمثقف أكثر من تغيير الآراء تبعاً للظروف والتزام الصمت الحذر، والتبجح الوطني ..."[12] لكن الحرب الإبادية على غزة كشفت هشاشة البنية الثقافية في فلسطين، وضعفها، وارتباط وجودها بالتمويل الأجنبي وبالانحيازات الحزبية، وابتعادها عن حاضنتها المجتمعية، وتشرذمها وضياع بوصلتها، وتحديداً فيما يتعلق بالعمل الجماعي نحو مشروع وطني تحرري. وبينما التزم كثيرون من المثقفين الصمت وتواروا عن الأنظار، علَّقت المؤسسات معظم برامجها من دون أن تقدم بديلاً يواكب الحدث ويبثُّ روح الصمود في جمهورها، ولم تسع إلى التشبيك مع حركات التضامن العالمي، مثلاً، لمكاملة الأدوار.
لقد كانت ردة فعل الثقافة الفلسطينية، بفاعلياتها ومؤسساتها الرسمية وغير الرسمية في خضم هذا الهجوم غير المتوقع وغير المسبوق، ضعيفة للغاية، فشكلت صدمة، وأصيب الحقل الثقافي بالشلل، كاشفاً انعدام الرؤية، ولسان حاله إطالة حياته تحت شروط أوسلو ذاتها التي أوصلته إلى هذا الضياع. وفي حين انخرط طلاب الفن في كلية بتسلئيل التابعة للجامعة العبرية في القدس، مثلاً، في خياطة ونسج أحزمة لجنود الاحتلال الذين يبيدون أهل غزة، وقف الطلبة الفلسطينيون في الكلية ذاتها في حالة من الضياع وانعدام الرؤية، فلم تستقطبهم جامعة فلسطينية، مثلاً، ولا مشروع يوجِّه جهدهم نحو هدف محدد.
وفي الختام، لا بد من القول إنه من الواجب على المثقف الفلسطيني، اليوم أكثر من أي وقت مضى، أن يضع انتماءاته الحزبية ومصالحه الضيقة جانباً، ويستشرف المستقبل، ويستنتج ماهية دوره وموقعه. وينطبق هذا القول بشكل أكبر على المؤسسات والروافع الثقافية الفلسطينية الرسمية وشبه الرسمية والشعبية. لقد حان الوقت لتوحيد الجهود والرد على التهديد الوجودي من خلال رؤية واضحة وخطوات عملية تكون بمثابة نواة لـ "نوع جديد من البعث"، فأيام وهم أوسلو قد ولَّت سياسياً وثقافياً، وهذه مرحلة جديدة وحاسمة، تستوجب جهداً موحَّداً... فإما نكون أو لا نكون.
[1] عبد الرحيم الشيخ، "المقبرة السعيدة"، "الآداب"، 30/12/2019.
[2] "ورقة موقف: تمويل الاتحاد الأوروبي المشروط: انعدام المشروعية والآثار السياسية"، بديل -المركز الفلسطيني لصادر حقوق المواطنة واللاجئين، 2020.
[3] طارق دعنا، "تجريم المقاومة الفلسطينية: شروط الاتحاد الأوروبي الإضافية على تقديم المساعدات إلى فلسطين"، "الشبكة"، 2/2/2020.
[4] المصدر نفسه.
[5] European Commission, “The Commission finalises the review of EU aid to Palestine”.
[6] موقف مؤسسات فلسطينية رداً على تهديدنا بقطع التمويل الأجنبي، بيان، 16/10/2023.
[7] وزارة الثقافة الفلسطينية، "الثقافة تصدر التقرير الشهري الثالث لرصد أثر العدوان الإسرائيلي على القطاع الثقافي في غزة" (7 تشرين الأول/ أكتوبر2023 – 7 كانون الثاني/ يناير 2024).
[8] علي مواسي، "مشكِّلات الكمون: فلسطينيو 1948 والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 137 (شتاء 2024).
[9] المصدر نفسه.
[10] David Smith, “People are being penalized: Hollywood divided over Israel-Hamas conflict”, The Guardian, 2/12/2023.
[11] رنا عناني، "غزة: رواية بصرية تقاوم اختزالها إلى الصمت"، "مجلة الدراسات الفلسطينية"، العدد 137 (شتاء 2024).
[12] إدوارد سعيد، "صور المثقف، محاضرات ريث سنة 1993"، ترجمة غسان غصْن (بيروت: دار النهار للنشر، 1996)، ص 14.